
لم تكن القمة الاردنية الامريكية والتي جرت الثلاثاء بين جلالة الملك عبدالله الثاني والرئيس الامريكي دونالد ترامب ، لتمر مرور الكرام بدون ان نعاين ، مفاصل مهمة في تاريخ السياسة والدبلوماسية على مستوى العالم.
الجميع قبل اللقاء كانت لديه العديد من المحاذير والاحكام المسبقة بالنظر لشخصية الرئيس الامريكي دونالد ترامب وافكاره وتوجهاته لمستقبل الشرق الاوسط.
وفي مقدمتها خطته لتهجير الفلسطينيين اصحاب الارض من غزة والحاقهم بدول اخرى ، دون اعتبار لسيادة دول او حرمة انتهاك مواثيق اممية وانسانية ترقى كما وصفها العديد من السياسيين لمرتبة “التطهير العرقي” في سياق اعتبارها جريمة حرب وضد الانسانية.
الاردنيون جميعا كانوا على ثقة بقائدهم الذي استبق اللقاء بـ “لاءات مدوية” اسمعت صداها ارجاء الارض ، وتأكيده على رفض تهجير الفلسطينيين من غزة ، وضرورة ان يتم اعادة بناء ما دمرته آلة الحرب الصهيونية من منازل ومستشفيات ومساجد وكنائس وجامعات وكل ما يمكن ان يبعد غزة عن عودتها كمنطقة صالحة للعيش وفق جريمة منظمة ومحسوبة النتائج.
اللقاء الذي كان مخطط له من قبل الادارة الامريكية ان يأتي في سياق استكمال الاهداف ، والحصول على تأييد لهذه الخطة المستحيلة.
كان جلالته في قمة الدبلوماسية والمسؤولية ولم يجامل وعبر عن المواقف الثابتة المبدئية التي طالما كانت سببا في الاحترام الدولي لجلالته ونظرته الثاقبة في ايجاد الحلول الناجزة لمستقبل الشرق الاوسط واحلال السلام على اسس تحفظ حقوق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة ذات سيادة متصلة جغرافية، استنادا للقرارات الاممية في اقامة الدولة الفلسطينة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس.
سجل فيه الملك عبدالله الثاني بحروف من ذهب مواقف تدرس في ميادين السياسة والدبلوماسية العريقة ، ستبقى خالدة في صحائف قيادتنا الهاشمية ، المستندة على الحق والمبادئ الانسانية التي ما حاد عنها الاردن بقيادة جلالته.
جلالته خلال اللقاء وبتعبيرات وتصريحات دقيقة ، استطاع ان يرسل من خلال هذا اللقاء رسائل للعالم وللادارة الامريكية ، ان القضايا التي تهم مصير شعوب ، لا يمكن الحديث عنها في سياق صفقة عقارية وربح وخسارة وتعويض مالي مهما كان.
واعاد جلالته خلال اللقاء وبخبرة سياسي محنك ، الادارة الامريكية الى جادة الصواب ، واستطاع ان يرد على افكار ترامب التي خيل له انها تصب في مصلحة المنطقة وقبلها في مصلحة الكيان الصهيوني ، بطريقة يفهم منها المتلقي والمتابع ، ان ما تعتقده صوابا ، سيشكل كارثة على المنطقة ، وسيؤجج الصراعات ويخلق الفوضى ولن يحقق الامن لاي طرف.
استطاع جلالته وبعبقرية سياسية ، ان يطرح الحلول القابلة للتطبيق والمتوافقة مع الشرعة الدولية ، وما يحفظ حقوق كافة الاطراف وسعيهم الى سلام مستدام.
وبلفتة لا يمكن الا الوقوف عندها ، في تحميل اسرائيل ما آلت اليه غزة من خراب لم يسلم منه البشر ولا الحجر ، عندما اعلن عن استعداد الاردن لاستقبال الفي طفل فلسطيني من مرضى السرطان ومن تسبب العدوان الاسرائيلي باصابتهم وقطع اجسادهم للعلاج في الاردن.
فعلاوة على الجانب الانساني في هذا الطرح وهذه المبادرة ، فقد عكس كلام جلالته لمن يقرأ ما بين السطور ، تحميل اسرائيل مسؤولية استشهاد اكثر من خمسين الف من الاطفال والشيوخ والنساء والرجال ومئات الالوف من المصابين واكثر من مليون ونصف نازح في غزة يعيشون ظروفا لا انسانية ، جراء العدوان الهمجي الذي استمر خمسة عشر شهرا.
وهو ما لا تريد الادارة الامريكية ان تتحدث فيه ، ولا ان يتم التركيز عليه في هذه الفترة.
وكان حديث جلالته حول هذه القضية بالغ الاهمية في كشف حجم المأساة التي تعرض لها الاهل في غزة باسلحة امريكية.
وهنا الرسالة الى صناع القرار في الكونغرس ومجلس الشيوخ حول الاموال التي تنفق لتسليح اسرائيل وجيشها الوحشي باموال دافع الضرائب المواطن الامريكي.
الرفض الملكي للتهجير واعادة تشكيل المنطقة وفقا لمصالح اسرائيل ، جاء بابلغ الصور في رسالة للادارة الامريكية والعالم بأن هناك حالة من التوافق بين الدول العربية في مواجهة خطة ترامب لمستقبل غزة ، سيتم طرحها على الجانب الامريكي ، في اطار جهود “اردنية سعودية مصرية” وبدعم كامل من الجامعة العربية والسلطة الفلسطينية ، عندما اكد جلالته على “أن تحقيق الاستقرار والسلام والازدهار في المنطقة مسؤولية جماعية.”
وكما شهد الجميع فقد تحولت اسئلة وسائل الاعلام الامريكية للرئيس الامريكي وطلب الاجابة حول مدى منطقية خطته في ضوء تصريحات جلالة الملك ، الذي فتح ابوابا كان الرئيس ترامب يريدها ان تبقى مغلقة.
بعد يومين من اللقاء بين جلالته والرئيس ترامب ، نجد ان الادارة الامريكية باتت متيقنة ان خطة ترامب لا تجد اذان صاغية في المنطقة ، ولذلك قرأنا مساء الخميس تصريحا لوزير الخارجية الامريكي مفاده اننا منفتحين على اي مقترح حول مستقبل غزة.
وهنا نستطيع ان نرقب ونلحظ نتائج اللقاء وتأثير الحضور الملكي في البيت الابيض ولقاءاته في الكونغرس ومجلس الشيوخ التي تلت القمة الاردنية الامريكية في البيت الابيض.
جلالة الملك ولانه يملك مفاتيح السياسة وقدرته على ايصال الافكار بالطريقة التي يفهمها صانع القرار الامريكي ، استطاع ان يعيد الكرة الى ملعب الادارة الامريكية ، لتعيد صياغة خطابها حول مستقبل المنطقة ، بما يضمن الالتزام بالسلام العادل والشامل وحل الدولتين الذي لا مناص منه لتحقيق السلام والامن في المنطقة.
وان ملايين الاطنان من الصواريخ والمتفجرات والطائرات والمدافع والدبابات التي وجهت الى غزة واحدثت فيها دمار وتقتيل لم يشهده التاريخ من قبل ، لم تستطع ان تجلب للكيان الصيهوني الامن والامان.
جلالة الملك عبدالله الثاني ، كان كما نثق ويثق به كل منصف عند حسن الظن به ، لانه يحمل عقلا وقلبا صادقا ، وما يقوله في الغرف المغلقة هو ذاته الذي يصدح به امام العالم وعدسات التلفزة العالمية.
وليس ابلغ من الرسالة السياسية العميقة التي ارسلها جلالته خلال اللقاء ، في رفض تهجير فلسطيني غزة ، واختصرها في كلمات ذات مغزى ورسالة “سأضع مصلحة الأردن فوق كل اعتبار” “لن أفعل إلا ما فيهِ مصلحةُ بلدي”.