اراء

الإعفاءات وغيرها.. كفى

أخطأت الحكومات كثيراً في موضوع الإعفاءات الطبّيّة الّتي كانت قد منحتها للنوّاب خلال السنوات الماضية، والّتي جعلت من أعضاء السلطة التشريعيّة شريكاً لها في العمليّة التنفيذيّة بدلاً من الرقابة عليها.

 

خطأ الحكومات في التعامل مع النوّاب ليس مقصوراً على الإعفاءات الّتي بات النوّاب يطالبون بها باعتبارها حقّاً أصيلاً لهم لا يمكن التنازل عنه حتّى لو أدّى الأمر لحجب الثقة عنها، فالأمر يمتدّ لعشرات الخدمات الّتي تمنح للنوّاب ما بين التوظيف والإعانات، وأموال وقروض للطلبة، وتعبيد شوارع وإنارة طرق، وتدخّلات في التنقّلات والتعيينات وغيرها من الترفيعات الّتي منحتها جميع الحكومات للأسف لأعضاء مجلس النوّاب والّتي جميعها بلا استثناء تندرج تحت باب “الأعطيات”.

النوّاب بحصولهم على هذه “الأعطيات” تحوّل مفهوم ودور النائب من دوره الرقابيّ والتشريعيّ لنائب كلّ همّه منصب على تعيين مراسل أو حصوله على طرود أو إعفاء أو غيرها من الخدمات لدرجة أنّ النوّاب باتوا يتسابقون في تصوير المراجعين لمكاتبهم في مناطقهم الانتخابيّة وهم يراجعونهم ويتقدّمون لهم بشتّى أنواع الطلبات.

طبعاً حتّى نكون منصفين، لا نلوم الكثير من هؤلاء النوّاب ونحمّلهم مسؤوليّة التراجع في هذا الأداء والتحوّل لدور خدماتي بحت، فالخدمات الحكوميّة في تراجع على كافّة المستويات وفي جميع المحافظات، ولم يعد للمواطن ملجأ لإيصال مطالبه إلّا من خلال النوّاب، وبات الأمر حقيقة مؤلمة، لأنّه باتت عنواناً للانحدار في شكل العلاقة بين السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، وباتت المساومات علنيّة وتحت القبّة بين الجانبين ولم يعد مقصوراً على فترات نقاشات الموازنة وبيان الثقة بالحكومات كما كان سابقاً، فمجرّد أن “يختلي” نائب بوزير أو أمين عامّ وزارة أو مسؤول من درجة مدير، حتّى ويمطره بعشرات كتب التعيينات والمناقلات والإعفاءات وغيرها من الطلبات الّتي فعلا باتت كلفاً عالية على الخزينة.

لا يفهم من هذا الكلام، أن كاتب المقال ضدّ الإعفاءات الطبّيّة، بل أنا شخصيّاً معها، ومع إعادة تنظيمها، وتبويبها، فهي حقّ أصيل لا يمكن التنازل عنه لكلّ من لا يملك القدرة على العلاج، ومن لا يملك التأمين الصحّيّ أساساً، فالعلاج تكفله الدولة مثله مثل التعليم، ولا يجوز بأيّ شكل من الأشكال أن تتراجع عنه الحكومات.

لكن مع كلّ أسف فإنّ مشهد منح الإعفاءات الطبّيّة بهذا الشكل أدّى إلى تشوّه ماليّ كبير بات ضاغطاً على الخزينة، فمن يصدّق أن قيمة الإعفاءات المقدّرة في قانون الموازنة العامّة الّذي أقرّه مجلس النوّاب العام الماضي ارتفع من 95 مليون دينار إلى أكثر من 450 مليون دينار، ممّا يشكّل وحده ثلث عجز الموازنة، ومع كلّ هذا فإنّ الأمر بات لا يحسب من أي جهة حتّى النوّاب أنفسهم الّذي يضغطون لمزيد من الإعفاءات وكأنّ الأموال تتساقط على الحكومة من السماء.

للأسف هذه السلوكيّات في العلاقة بين السلطتين كرّستها الحكومات نفسها عبر ما يسمّى بوزارة التنمية السياسيّة تحديداً وغيرها من المؤسّسات الّتي فتحت الأبواب على مصراعيها، فهذه الوزارة تحديداً بدلاً من أن ترتقي بالعمليّة الديمقراطيّة في المجتمع وتؤسّس لحياة حزبيّة وسلوكيّات ديمقراطيّة كانت بوقاً ومصدراً للانحلال في العمل السياسيّ بين السلطتين، وتشويهاً للعلاقات وتكريساً للأعطيات، لا بل باتت جهة رسميّة معنيّة بمأسسة هذا التشوّه، باعتباره وسيلة لتنظيم العلاقة بين الجهتين من خلال إيجاد باب خفيّ لتلبية مطالب النوّاب.

على الحكومة أن تنهي هذه التشوّهات وأن تلجم نفسها قبل غيرها بسلوكيّات عادلة تحت مظلّة دولة القانون، وألا تلجأ إلى مثل هذه الأعطيات لا للنوّاب ولا للإعلام ولا لغيرهم، وأن تقوم بتحسين خدماتها الأساسيّة وتوفيرها بالشكل المناسب الّذي يمكن أي مواطن من الحصول عليها دون طرق أبواب الواسطات والمحسوبيّات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى