اخبار الاردن

الجلوة العشائرية عقاب جماعي بغير ذنب

رؤيا نيوز – “لم يتوقف المطر يومها، كان شتاءً قارسا لا ينسى، جلسنا نشتكي إلى الله من تسبب في رحيلنا … طُلب منا أن نخرج من المنزل خلال سويعات فقط؛ حفاظا على أرواحنا، وحرصا على عدم إراقة دمائنا من قبل عائلة المقتول، رغم أننا لم نكن طرفا في جريمة القتل التي حصلت داخل المنطقة، رحلنا وتركنا خلفنا كل ما هو ثمين، حتى أوراقنا الثبوتية لم نتذكرها، وبقينا لأكثر من خمس سنوات نعيش كرُحل، إلى أن صدرت وثيقة ضبط الجلوة العشائرية، وأعادت لنا الحياة مرة أخرى” كما يروي أنور الجحاوشة وهو عائد من الجلوة.

ما قبل قيام الدولة الأردنية عام 1921، كان القضاء العشائري حاضرا ليفصل بين النزاعات العشائرية، فلم يكن هناك قانون، أو نظام يحدد القواعد والأطر العامة للحقوق، كما يقول العين السابق في مجلس الأعيان الشيخ حماد المعايطة.

ويضيف المعايطة “كان القضاة يتوزعون بحسب اختصاصاتهم؛ فنجد قاضي الفلاحة، وآخر يطلق عليه قاضي العرض المختص بقضايا هتك العرض والشرف، كذلك القاضي المختص بقضايا القتل، وأيضا القاضي المتخصص بالخيل، وكانت الغاية إحلال الوئام بدلا من الخصام”.

حُفظت القوانين العشائرية في الصدور، وأصبحت موروثا قانونيا ينتقل من الجد إلى الأب ثم الأحفاد، حتى ذاع صيت القضاة وعرفوا في شتى أنحاء المملكة، كما يروي القاضي العشائري جرمان الحجايا، ويقول “لضمان تطبيق القوانين العشائرية كان يوضع شخص ما بين الجاني والمجني عليه يطلق عليه لقب الكفيل، الذي يكفل ضمان التزام الطرفين بتطبيق ما يصدر عن القاضي العشائري؛ لتكون بذلك الكفالة ملزمة للجميع”.

ينقسم الكفلاء إلى قسمين كما يوضح الشيخ حماد المعايطة “كفيل الوفا: الذي يوفي بما يتحقق على الجاني عندما توضع دية من قبل الطرف الآخر ولم تكتمل، كفيل الدفا: الذي يشكل الحماية لمن يلجأ إليه، علما أنه يتم اختيار أصحاب القدرة، والخبرة”.

عام 1987 صدرت أول وثيقة لضبط الجلوة العشائرية تحت رعاية الملك الراحل الحسين بن طلال طيب الله ثراه، كما يؤكد شيخ عشائر الخزاعلة في المملكة الشيخ تركي أخو ارشيدة، ويضيف: “لتخفيف الأعباء التي تلحق بالجلوة العشائرية على الطرفين، وحفظ حقوقهم، ففي تلك المرحلة كان يلاحظ الغلو في بعض المطالبات المتعلقة بالدية، والتجاوز على العادات والتقاليد، فصدرت هذه الوثيقة بتوافق من جميع أبناء المجتمع آنذاك، وقبول غالبية شيوخ العشائر”.

الجلوة … تهجير قسري

وكأن الزمان حفر في وجهه الكثير من الأخاديد، وأنبت فيها لحية تميل إلى البياض، وما يزيدها وضوحا اسمرار وجهه الذي تشبع بأشعة الشمس عبر السنين، رغم أنه غاب عنها لأكثر من عام ونيف، بعد أن بقي خلف الأسوار حبيسا، في جريمة لم يكن له فيها ناقة أو جمل، ولم تنفك عقدتها إلى هذه اللحظة.

كل حين وقبيل الغروب، يتخذ سعد اللصاصمة-جلوي، من إحدى زقاق جبل بني حميدة في محافظة مأدبا ملجأ له، يجلس ويطيل النظر إلى مسقط رأسه بلدة “صرفا” مستذكرا الكثير من المواقف والذكريات التي سكنت طفولته وشبابه في المنطقة، وقبل أن يخرج منها مرغما عن نفسه.

يقول اللصاصمة:”كنا نعيش في قرى الحمايدة شمال محافظة الكرك، وأحوالي كانت ميسورة، أعمل في مهن حرة متعددة، لدي دخل جيد أغطي من خلاله جميع التزاماتي المادية، والاجتماعية، بقينا على هذا الحال حتى جاء اليوم المشؤوم، وحصل خلاف ما بين أولاد العمومة من داخل العائلة، نتج عنها وفاة أحدهم، وعلى إثر هذه القضية طلب منا أن نجلي من المنطقة”.

يطلق على منطقة جبل بني حميدة التابعة للواء ذيبان في محافظة مأدبا “راس المجلى”، وذلك لقربها من محافظة الكرك، فعند حدوث جريمة قتل في مناطق الجنوب، يطلب في بعض الأحيان من عائلة الجاني أن تجلي باتجاه جبل بني حميدة، رغم أنها منطقة نائية، شحيحة بالخدمات على ما قاله اللصاصمة لـ “المملكة”.

يستذكر شيخ عشائر الخزاعلة في المملكة الشيخ تركي أخو ارشيدة طقوس الجلوة في السابق: “لم تكن الحياة مستقرا كالفترة الحالية، كان يقول العرب ‘هد وارحل‘ عند حدوث جريمة قتل، يطلب من أهل الجاني أن يخرجوا من المنطقة، فكانوا يجمعون بيت الشعر ويرحلون، لم تكن لديهم أي التزامات مادية، أو وظائف ثابتة، أو تجارة حتى، يرحلون على جمالهم، وربما مشيا على الأقدام؛ حقنا للدماء، وتخوفنا من تجدد المشاجرات ما بين الطرفين.

بعد حدوث الجريمة يجتمع عدد من وجهاء العشائر وأصحاب الاختصاص من العائلتين، ويعملون على إعطاء أهل الجاني “عطوة عشائرية” وهي هدنة مؤقتة تتراوح مدتها من ثلاث أيام إلى سنة، وربما أكثر بحسب ما يتم الاتفاق عليه، إلى حين إجراء الصلح بين الطرفين، كما يؤكد القاضي العشائري جرمان الحجايا.

يضيف الحجايا” القضايا التي تترتب عليها الجلوة العشائرية القتل، وهتك العرض، يرحل عليهم الجاني وصولا إلى جده الخامس، لكن في السابق كان يجلى فقط الجد الثالث، وكنا نقول في عرفنا “الجد الخامس ثلاث أيام وما يروح، الجد الرابع يدفع بعير النوم” وهو ما يدفعه الشخص إلى أهل المقتول ليعفى من الجلوة، ويعود بعد فترة زمنية قصيرة تصل إلى 30 يوما فقط.

“يقال في العرف البدوي سابقا وين ما تحط أدق الحد ما بينك وبين المنطقة الثانية، وهذه تعتبر جلوة، لكن في يومنا هذا اختلف الأمر، الجلوة أصبحت من محافظة إلى أخرى بناء على تنسيق من وجهاء العشائر، أو بحسب أهل الجاني يستطيعون اختيار المنطقة التي يريدونها، ويشترط أن تبعد مسافة كبيرة عن أهل المجني عليه” كما يقول الشيخ العشائري محمود الحيصة.

الكفالة بالخاطر والدخالة بلوة

كلما مرت بطيف سعد اللصاصمة ذكريات قدومه الأولى إلى جبل بني حميدة، يسرقه الحنين ويبكي بكاءً مرا على ما فقد، يقول اللصاصمة: “خسارتي المعنوية والنفسية، لا تقدر بثمن، عندما خرجت من الكرك برفقة عائلتي الكبيرة لم نكن نملك قوت يومنا، أو حتى ملابس نرتديها، سكان منطقة جبل بني حميدة قدموا لنا الطعام والملابس، وسكنت أجسادنا من ذلك الوقت الكثير من الأمراض المزمنة كالضغط، والسكري، وأمراض القلب” علما أنه لا يوجد تاريخ مرضي لدى العائلة بهذه الأمراض، إلا أن الضغوط النفسية تسببت بمأساة عظيمة لن تمحى إلا بعد موتنا.

ويضيف اللصاصمة” بناءً على طلب وجهاء العشائر في منطقتنا جلينا إلى جبل بني حميدة، وهي قرية نائية جدا، يجبر ساكنوها على العمل في القرى المجاورة؛ لعدم توافر أي عمل هنا، رغم ذلك قدموا لنا الكثير، ولم يتوانوا عن تقديم بيوتهم لنا، وهذا رتب عليهم الكثير من الضغوطات المادية والاجتماعية، رغم أنهم غير مرغمين على ذلك.

“الكفالة بالخاطر والدخالة بلوة” يقول شيخ عشائر الخزاعلة تركي أخو ارشيدة ويضيف: “لا تقل معاناة الأشخاص المدخول بهم، كما يقال في العرف العشائري، عن معاناة الأشخاص المرحلين من منازلهم، فهم مجبرون على توفير الطعام، الشراب، المسكن، وحتى الحماية الأمنية لهم؛ خوفا من قيام الأطراف الآخرين بالتهجم عليهم، أو حتى رغبة أحد الراحلين بالعودة، فيجب أن يتم منعهم حماية لهم، وهذا أيضا يعرف لدينا بـ “تقطيع الوجه”.

ويعني “تقطيع الوجه” قيام شخص مرحل بالعودة إلى منزله أو المكان الذي رُحل منه، ويجب على الكفيل حينها دفع مبالغ مادية إلى أهل المجني عليه، وقد يترتب على ذلك الكثير من المشاكل.

وكان يتوقف أبناء عائلة السعيد حراسا على أبواب المنازل والقرية ليلا ونهارا في منطقة الموقر، بعد أن وصل إليهم ما يقارب 120 شخصا من مدينة الطفيلة؛ إثر جلوة عشائرية وقعت بعد جريمة قتل حصلت بين عائلتين في المنطقة، يستذكر القاضي العشائري جرمان الحجايا تفاصيل هذه الأيام بدقة، ويضيف: “بعد مرور ثلاثة أيام على الجريمة ذهبنا عطوة اعتراف إلى عائلة المقتول، وجلسنا عند بيت يطلق عليه “منقع الدم” وهو بيت قاضٍ عشائري يفصل بين الطرفين بالعادة، ورجوناهم أن تطبق الجلوة العشائرية بعرفنا القديم؛ لإعادة العائلات التي جلت بعد مرور فترة زمنية محددة، واستطعنا إرجاع 93 شخصا بعد مرور قرابة الشهرين.

وخلال العمل على إعداد هذا التقرير، استطاع فريق “المملكة أن يوثق مراحل عودة موسى الشريم إلى منزله بعد أن أجبر على الرحيل منه برفقة عائلته قبل خمس سنوات؛ إثر جريمة قتل حدثت داخل العائلة، رغم أنه لم يكن طرفا بها.

بداية العودة

لم تعد عصا موسى شريم الخشبية قادرة على الوقوف أمام رجفات يده المتتالية، فقد أصابت قلبه نوبات حزن مريرة، أثرت على جسده وجهازه العصبي تحديدا، يقول موسى: “ذات مساء حصلت مشاجرة ما بين أبناء أخي وعائلة أخرى في المنطقة، نتج عنها وفاة أحد الأشخاص ووقوع عدد من الإصابات، حينها لم أكن في المنطقة وردني اتصال من جار لي، يخبرني عن الحادثة وينصحني بعدم العودة إلى منزلي؛ حفاظا على حياتي.

يضيف شريم: “التقيت بعائلتي بعد مضي يومين من الحادثة، في منطقة بعيدة عن منزلي، ورحلنا إلى منطقة الحلابات، جلسنا داخل الشاحنة ما يقارب ثلاثة أيام دون ماء أو طعام، حتى تدهورت الحالة الصحية لوالدتي وأجبرت على نقلها لإحدى المستشفيات القريبة، وبعد أيام تلقينا خبر وفاتها”.

“يتوجب محاكمة مرتكب الجريمة فقط، وفق القانون المدني الذي تخضع له الدولة، ويرفض بشكل قاطع أن تتم محاكمة المدنيين وفق القانون العشائري أيضا، بأن تفرض عليهم مبالغ مالية مهولة، أو يتوجب عليهم الخروج من بيوتهم، ناهيك أنه يتم محاكمة من لا ذنب لهم في القضية، فما ذنب كبار السن، أو الأطفال، فالجلوة هي عقاب جماعي يتوجب أن يتم إيقافها بأقرب وقت، وهذا مطلب شعبي وليس مطلبا فرديا” كما يقول العين السابق في مجلس الأعيان حماد المعايطة.

حاول موسى الشريم بعد مضي يومين على وفاة والدته أن يطبق وصيتها بدفنها في منطقة الباعج، لكنه مُنع من الدخول إلى قريته ووداع والدته، أو حتى دفنها، وأجبر على استقبال المُعزَين في بيته المستأجر، وبعد مرور أيام أصيب بصدمة نفسية مريرة، ولم يعد يألف الحديث مع أصدقائه، أو الخروج من المنزل.

تترتب على الجلوة العشائرية العديد من الآثار السلبية، ولعل أهمها على ما يشرح القاضي العشائري جرمان الحجايا الاضطرابات النفسية، يقول الحجايا” نلاحظ دائما المشاكل الاجتماعية والنفسية التي تصيب العائلة بعد حدوث الجلوة، كونهم انتقلوا من بيئة إلى أخرى، فالأب قد يفقد أصدقاءه أو وظيفته، ويشعر بوحدة قاتلة، كذلك الأطفال قد يبتعدون عن أصدقائهم في المدرسة أو المنزل، وربما يجدون صعوبات في الاندماج مع البيئة الجديدة.

لم تشفع وفاة والدة موسى له ولعائلته بالعودة إلى منزله في منطقة الباعج، إذ رفضت عائلة الشخص المقتول عودة أي فرد من أبناء العائلة الممتدة، ورغم تدخل عدد من وجهاء العشائر في المنطقة، كما أكد موسى الشريم ويضيف” على إثر صدور وثيقة ضبط الجلوة العشائرية، سمح لنا محافظ المفرق بالعودة إلى منازلنا.

لم يتماسك موسى الشريم نفسه لحظة عودته إلى منزله، بكى حتى جفت الدموع في عينيه، فحتى الذكريات على حد وصفه دمرت، فقد تم تكسير المنزل بشكل كامل، وخلعت الأبواب والشبابيك، ودفنت أشجار الزيتون التي بقيت صامدة لأكثر من 25 عاما تحت الأرض، ولم يتبقَ إلا غبار يستوطن البيت وما حوله.

وثيقة ضبط الجلوة

دخلاء على العادات والتقاليد هم من تسببوا في صدور وثيقة ضبط الجلوة العشائرية؛ فقد تبين أن بعض الأشخاص أصبحوا يتكسبون ماليا في سبيل جرائم الآخر، كذلك ما تم رصده من مغالاة في تكاليف الجلوة وشكلها، على ما أكد شيخ عشائر الخزاعلة تركي أخو ارشيدة.

ويضيف” عاد بصيص من الأمل لبعض العائلات الجالية في المملكة، بعد أن تم التوافق من قبل وجهاء العشائر، ونخبة من المواطنين على إصدار وثيقة جديدة تعيد تنظيم الجلوة العشائرية، وتساهم في حل القضايا العالقة لدى بعض الحكام الإداريين، واللافت في الأمر أنه تم تطبيقها بأثر رجعي، على العائلات التي جلت من بيوتها في السنوات السابقة.

قبل سبعة أعوام جلى أنور الجحاوشة من بيته برفقة أخواته على أثر جريمة قتل حدثت بين أحد من أفراد العائلة وجار لهم على ما قاله لنا، ويضيف” خرجنا من بيوتنا برفقة أطفالنا ونسائنا في فصل الشتاء، في ظروف لا يعلم إلا الله بها، وما زاد الأمر سوءاً، أنه وردني اتصال بعد أيام من صديق لنا أخبرني بقيام أشخاص من عائلة المقتول بحرق منازلنا جميعا، لتصبح جميع مقتنيات المنزل رماداً.

ويؤكد الجحاوشة الذي استطاع العودة إلى منزله بعد صدور وثيقة ضبط الجلوة العشائرية” حاولنا خلال السنوات الماضية أن نرسل رسائل كثيرة إلى عائلة المقتول برغبتنا بالعودة لكن دون فائدة، رغم تدخل عدد من وجهاء العشائر في قضيتنا، المنقذ بالنسبة لنا كانت الوثيقة فعلى أثرها سمح لنا بالعودة إلى منازلنا.

تنص وثيقة ضبط الجلوة العشائرية على اقتصار تطبيق الجلوة في قضايا القتل فحسب، وهي تشمل القاتل، ووالد القاتل، وأبناءه من الذكور فحسب.

ساهمت الوثيقة كما يرى الشيخ العشائري محمود الحيصة في إعادة الكثير من العائلات الجالية في محافظة مأدبا إلى منازلهم، بعد أن تمت تسوية الخلافات ما بين الطرفين، كذلك أدت إلى ضبط أنفس المواطنين عند حدوث الجريمة، فبعد صدور الوثيقة لم نشهد أي حالات لحرق البيوت كما كان يحدث في السابق.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى