فن

“الحارة” و”بنات عبد الرحمن”: فيلمان أردنيان وحرّاسٌ كثُر لـ”الثوابت”

تولد الأفلام السينمائية في الأردن مرّتين، الأولى شرعية في صالات السينما لا ينتبه لها إلّا القليل، والثانية غير شرعية على منصّات البثّ التدفّقي، ومنها تتدفّق الولولة والمجادلات لمدّة أسبوع. لا أحد منا يرغب باستعمال المصطلح الطويل “منصّات البث التدفّقي”، ونفضّل مباشرة القول “نتفليكس” و”شاهد” الأوسع ذيوعاً عندنا. وهاتان معاً عرضتا مطلع الشهر الجاري فيلمين أردنيّين روائيين: “الحارة” و”بنات عبد الرحمن”، أثبتا جدارة السينما الأردنية في تقديم أفلام على سويّة عالية من الاحتراف، تطرح نفسها لمشاهديها فيؤخذ منها ويُردّ عليها.

في العرض السينمائي يكون الفيلم تحت مقصّ الرقيب، وهذا متروك للائحة القِيم وذائقة الرقيب ومزاجه في ذلك النهار، فقد يكون مقصَّ حواجبَ ناعماً، وقد يكون كبيراً للأشجار.

يحتفظ أصحاب الفيلم بنسخة يسلّمونها للبث التدفّقي، وهيئة الإعلام بدورها تحذف “كلّ الألفاظ والمشاهد الخارجة عن قِيَم المجتمع الأردني”، قبل إجازة العرض في دُور السينما الأردنية، كما فعلت مع فيلم المخرج باسل غندور “الحارة”. وبالقياس، سيكون هذا حالُ فيلم زيد أبو حمدان “بنات عبد الرحمن”، وكلاهما عرضتهما دُور السينما صيف العام الماضي.

ملاك وشيطان
لدينا إذاً نسختان: “ملائكية” في دُور السينما الأردنية حيث يمكن تطبيق القوانين والأعراف على الأرض، و”شيطانية” تتدفّق عبر الإنترنت، فوق وطنية، وتقول لك “امسكني لو استطعت”.

إذا كان ذلك كذلك، فلنتحدّث عن النسخة “الشيطانية”، لنلحظ أمراً جديداً. فرغم محافظة فئة من ناشطي التواصل الاجتماعي على استعمال مقصّ رقابي، من النوع الذي “يقصّون به خبرك”، إلّا أن الفيلمَين كسِبا مساحة أرحب من المعجبين.

بذاءة
فقد بدأ يتسرّب إلى محبّي الأفلام مللٌ من عبارات “الشعبنة”، لا الشعبوية التي تُردّد دائماً أنها لم تُشاهد الفيلم، ولكنها مع هذا ترفضه ذوداً عن حِياض المجتمع، وحتى يسلَم الشرف الرفيع من الأذى. يجري التغاضي عما يسمّى “العبارات البذيئة” عند جمهور آخر، بدعوى أنها من واقعنا، وعلى هوى مظفّر النوّاب، إذ يطالب بأنْ: “أروني موقفاً أكثر بذاءة ممّا نحن فيه”.

وبين هؤلاء وهؤلاء يأتي صوت صالح العرموطي النائب في البرلمان، موجّهاً أسئلة لرئيس الوزراء بِشر الخصاونة حول الأفلام (والمسلسلات)، التي “تُخالف الشرع الحنيف وتسيء لعاداتنا وتقاليدنا وثوابتنا الأردنية”.

وهو هنا يحدّد جملة من الثوابت، كلّ واحد منها حقل ألغام، ما يضطر من يريد مساجلته أن يتسلّل إلى معجم الثوابت ذاته، ويسأل هل يُعدّ وقوف البرلمان في وجه تعديل قانون “جرائم الشرف”، وحراسة قتل النساء مخالفاً للشرع؟

مسؤولية صبري
منذ 2003، أي حين وقف الإسلاميون والمحافظون في البرلمان وقفة رجل واحد، وأسقطوا قانوناً يغلّظ العقوبة على قاتلي “الشرف”، من يتحمّل وزر إزهاق عشرات الأرواح؟

أقترح تحميل المسؤولية لإسلام العوضي الذي أدّى دَور صبري بفيلم “الحارة”، الدور الخطير الذي لا يُنسى، وهو يصوّر من عمارة مهجورة غُرف النوم ويبتزّ النساء. وأن نعمل في المقابل تمثال صابون لزوج آمال (صبا مبارك)، في “بنات عبد الرحمن” الذي علّم وجهها المنقَّب، وأراد تزويج طفلته ذات الخمس عشرة سنة.

النظافة
يبقى الفن في جوهره مجالَ مغامرة وسجال، وليس من شغله أن يكون “نظيفاً”، لأن “النظافة” هي التي نتجرّأ في القول إنها ليست ثابتاً دون أن نُساق إلى السجن أو جهنم.

فمن يطرح الأسئلة قد يُنظر إليه بوصفه موسِّخاً لأجوبة استقرّت منذ الأزل، ومن يرسم مزبلة قد يرى فيها آخرون أنها جزء لا يمثّل الواقع، بالضبط يحدث هذا حين يرسم حديقة غنّاء ويُشيح بوجهه عن المزبلة. فلنحذف ما اعتُبر كلماتٍ خادشة للحياء العام، ولنقل إن عباس (منذر رياحنة)، في “الحارة”، لم يشتُم أخت علي (عماد عزمي)، ولم تتلفّظ سماح (حنان الحلو)، في فيلم “بنات عبد الرحمن” بأي لفظ سوقي، ما المطلوب بعد ذلك؟

جبل النظيف
هناك بيئة يصوّرها “الحارة”، بشخصيات ليلية في الملاهي، وتقع جرائم قتل في فيلم يصنّفونه على أنه “تشويقي” بإيقاع سريع. والراوي يسرد سيرة أزقّة شعبية في جبل النظيف. ثمة صاحب الدكّان العجوز المحترَم، و”الفتوّات” وبنات الليل الذين لا نعرف تاريخهم، والأهم من كلّ هؤلاء، الذين دفعتهم الظروف الضاغطة ولحظة الانهيار ليصبحوا قتلة، ولم يخطّطوا لذلك وهم يتناولون فطورهم.

لم تكن هناك بؤرة نصّية في الفيلم. فاللعبة تقوم على سرد مصائر متقاطعة. كلّ حكاية تولد في الحارة أو تصبّ فيها، لتكوّن في الختام لوحةً من جسد ودم، الجسد محكوم بكوابيسه وأحلامه، والدم يسيل في العروق وعلى الأرض. يحتاج هذا النوع السينمائي إلى مهارة تركيبية على الطريقة الأميركية، والمخرج هنا يُدير الأحداث على نحو أفقي واسع، وعليها كلّها أن تكون مبرّرة فنّياً حتى تتشابك كلّها في إطار واحد.

بنات عبد الرحمن
في “بنات عبد الرحمن” كان الأمر مختلفاً. ومثله مثل فيلم “الحارة” (ساعتان تقريباً)، لكنّ الأحداث مركزية عبر شكل فني مُغاير، تتطلّب الغوص عميقاً في سير أربع شقيقات، اجتمعن لأول مرّة منذ سنوات في بيتهن بجبل الأشرفية، للبحث عن والدِهنَّ (خالد الطريفي)، الذي خرج ولم يعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى