الدباس يكتب: الحسين الذي عاش!

عاش الحسين …. رددها الاردنيون بتفاوت في مراحل كثيرة في بدايات حكم الملك الشاب؛ ورددها الاردنيون بثقة في منتصف حكمه ؛ ورددها الاردنيون بمحبة وايمان في عقده الأخير من الحكم! لكن السر الالهي الذي وضعه الله في شخصيته جعل الاردنيون مستمرون في ترديد عاش الحسين الى اليوم رغم ما يزيد على عشرين عاما على وفاته!

عاش الحسين في قلوبنا الى اليوم لعدة اسباب …. فهو جاء الى الحكم ملكا دستوريا ؛ وعاش محبوبا جماهيريا ؛ ومات رجلاً اسطوريا …. حكم في قلب النار بقمة اللين ؛ وأدار خزينة خاوية ببركة كبيرة ؛ ولم ينظر في عيني أحد ما الا واعطاه ثقة كبيرة بأن الغد أفضل وقد كان!

ولعل أبرز أقواله التي تعبر بصدق عن رسالته ما جاء على لسانه يوماً (( وكل رجائنا وكل أملنا أن يأتي يوم بعدما ننتهي كلنا ولا أحد باق، يقول الناس فيه بأن هذا الرجل حاول، وبأن أسرته حاولت … هذا كل ما في هذه الدنيا.))….. ويأتي اليوم بعد اثنين وعشرين عاما كاملات من رحيله لنشهد الله عز وجل ان هذا الرجل حاول فنجح وبنى وطناً عظيماً واجتهد صادقاً في البحث عن مستقبل افضل لشعبه به من العزة ما يكفيه وله من رصيد المحبة ما يغنيه !

عاش الحسين في قلوبنا لأن له مع كل بيت حكاية …. هل فعلاً هناك بيت اردني يخلوا من حكاية عن الحسين؟ حتى اولئك الاطفال الذين ولدوا بعد وفاته ينظرون الى صوره بمهابة ؛ فقد كان رحمه الله ذو كاريزما بالغة في التأثير بشخصيته القيادية الصلبة الواثقة وحنوّه الفطري الغامر بالانسانية الحقيقية !

لا زلت أذكر غضبة الحسين على ما حل بجمعية الحسين للايتام ؛ يومها خرج علينا عبر برنامج ستون دقيقة داعيا لمراجعة شاملة للادارة الحكومية العامة فقط لأن وزارة التنمية الاجتماعية اصابها اهمال ما تجاه هؤلاء الايتام وواجب رعايتهم …. ومن جملة ما قاله يومها حسب ذاكرتي ان اكثر شيءٍ اغضبه هو حين يرى الخطأ بعينيه ويسأل عنه يجيبه المسؤولون (( كله تحت السيطرة سيدي )) !

هكذا كان الحسين …. يفضل الدواء على ان يغض النظر عن الداء! وها نحن نترحم عليه في كل موقف نشعر بغيابه فيه عن الأمة …. ليس لفراغ تركه بل ربما لاننا كنا نحب ان نسمع تحليله واستشرافه للحدث …. ربما لاننا نقارب ما يحدث مع تخيلاتنا لمواقفه ان حدث ما حدث ….. هو سر الهي جعله الله فيه بعبقرية استشرافية لما وراء الحدث …. ألم يتنبأ الحسين ان العراق لن ينجو من ويلات ما بعد حرب الخليج الى أكثر من اربعين عاماً ؟ ها قد شارفنا على ثلاثين منها ولا زال العراق ينزف!

عاش الحسين في قلوبنا رغم تقصيرنا تجاهه ؛ فهو يستحق منا عملاً حقيقياً تجاه الوطن الذي أحبه؛ يستحق منا مبادرات تطوعية وخدمة مجتمعية باسمه ووفاء له ؛ تكرس قيم الحسين العظيم في القيادة : الانسانية والحكمة و المصداقية …. يستحق منا فسحة تربوية تدرس تسامح الحسين وفكره ووسطيته وفنه السياسي الخاص: فن الممكن! وأكثر ما يؤلمني حقاً حين استعيد المنشورات والكتب والمؤلفات الاردنية عن سيرة الحسين بعد وفاته والتي لم تتجاوز في احسن حالاتها جمع المقالات والكلمات والتصريحات التي نشرت في تأبين الحسين بعد وفاته!

عاش الحسين في قلوبنا ليس لأن حكمه طال …. بل لأنه كان الحسين بن طلال : المختلف عن زعماء جيله ؛ المترفع عن الصغائر ؛ المتواضع مع الصغار ؛ الجامع الذي لا يفرق … حتى اضحت كل هذه الصفات هي صفات الاردن بدل ان تكون فقط صفات الحسين!

كان الحسين نعم ؛ لكن عاش من بعده الاردن كله يستذكر هذا الملك الانسان الذي أحب شعبه بصدق واحبوه بشغف! ولعل ما يبرز عظمة الحسين في جيله هو تلك الصور التي تشهد حتى اليوم انه كان الزعيم الوحيد في الشرق الاوسط الذي يعتلي سقف سيارته بين الجماهير الغفيرة في الشوارع لا يخشى على نفسه من غدر الغادرين بل يدفئ قلبه بمحبة الناس!

في ذكراه …. رحمة الله على الحسين الباني … وحفظ الاردن وملكه وشعبه وارضه وسماءه وبحره الى أبد الابدين ورزق اهله من اطيب الثمرات …. اللهم آمين.