اراء

الدين العام .. هل من مبرر للقلق؟

الدكتور محمد ابو حمور

مشكلة المديونية ليست مشكلة محلية، فاليوم تعاني العديد من اقتصادات العالم من نسب مديونية مرتفعة تزيد عن اجمالي الناتج المحلي، حيث يشير تقرير الديون الذي أصدره البنك الدولي الى أن الدين العالمي وصل عام 2018 الى مستوى قياسي يعادل حوالي 230% من اجمالي الناتج، أما الديون على الدول النامية والاسواق الناشئة فقد وصلت النسبة الى 170% من الناتج، وبزيادة قدرها 54 نقطة مئوية مقارنة بعام 2010، وبلغ اجمالي الدين الخارجي على الدول منخفضة ومتوسطة الدخل عام 2018 أكثر من 7.8 تريليون دولار، وهو بذلك يتجاوز مجموع صادرات هذه الدول، أما على صعيد منطقة الشرق الاوسط وشمال أفريقيا فتبلغ المديونية الخارجية حوالي 321 مليار دولار، وهي تعادل حوالي 94% من الصادرات، وقد تميز هذا الاقليم بتسجيل أسرع تراكم في أرصدة الدين الخارجي خلال عشر سنوات 2008-2018 بنسبة بلغت 7%، وخاصة جمهورية مصر العربية التي بلغت نسبة التراكم فيها حوالي 15%، لذلك تركز معظم الجهات الدولية على ضرورة التعامل بحكمة وشفافية مع ادارة الديون.

تاريخياً اكتسبت فكرة تمويل العجز من خلال الديون شعبية كبيرة أواسط القرن الماضي،خاصة مع ذروة صعود النظرية الكينزية في الاقتصاد والترويج لفكرة تدخل الدولة باعتبار ذلك ضرورة اساسية للنمو وتحسين حياة المواطنين، الا انه وحتى في ذلك الوقت ظهرت بعض الاراء التي لا تحبذ اللجوء غير المبرر لهذا المصدر من التمويل، فمثلاً يؤكد عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل جيمس بوكانان في كتابه «المباديء العامة للدين العام» ان الاعتقاد بكون الدين الداخلي ليس عبئاً على المواطنين هو اعتقاد خاطيء، وان الدين العام عبارة عن وسيلة تسمح بان تقوم الاجيال الحالية بتمويل متطلباتها الحياتية على حساب الاجيال القادمة. وبالرغم من ان وجهة النظر هذه تحمل في طياتها جانباً من المصداقية الا أنه يجب ان لا يغيب عن بالنا ان الاستخدام الرشيد والواعي للمديونية يمكن ان يشكل قاعدة لنهضة الاجيال القادمة ويوفر لها ما لم يكن متوفراً وهذا لا يقتصر على البنية التحتية والمؤسسات المتطورة وانما يشمل ايضاً اعداد وتوفير الفرص والمقومات اللوجستية لتنمية بشرية ذات مستوى متقدم مما ينعكس على مختلف مكونات وشرائح المجتمع.

وصلت نسبة اجمالي الدين العام في الاردن نهاية عام 2019 الى ما يقارب 97% من الناتج المحلي الاجمالي المقدر بالاسعار الجارية، واذا استمر التصاعد في حجم الدين العام بنفس الوتيرة، ومع تواضع نسب النمو الاقتصادي فمن المتوقع ان نشهد هذا العام بلوغ نسبة الدين العام نسبة 100% من الناتج المحلي الاجمالي، أما على صعيد خدمة الدين العام/موازنة فقد بلغت في نفس العام حوالي 2.8 مليار دينار أي ما يعادل حوالي 9% من الناتج المحلي الاجمالي، مقابل ما يقارب 1.8 مليار دينار عام 2018، ويفسر ذلك بتضاعف أقساط الدين الخارجي، وزيادة مبلغ الفوائد باكثر من 100 مليون دينار، ومن المؤشرات الاخرى التي لا بد من لفت الانتباه لها نسبة خدمة الدين الى الايرادات المحلية والتي تجاوزت 40%، وما يزيد على 36% من الايرادات العامة، أما نسبة الفوائد الى الايرادات المحلية فقد بلغت حوالي 16%، وفيما يتعلق بخدمة الدين الخارجي /موازنة ومكفول فقد بلغت 7% من الناتج المحلي الاجمالي، كما بلغت نسبة الدين الخارجي الى الاحتياطيات الاجنبية حوالي 70%.

هذه بعض المؤشرات المتعلقة بالدين العام التي يرى بعض المحللين انها تستدعي دق ناقوس الخطر، أما اخرون فيرون ان الاردن لا زال قادراً على خدمة ديونه والقيام باعبائها، وأن الفرصة لا زالت قائمة لتجاوز الصعوبات المترتبة على المديونية والانطلاق مجدداً في مسار النمو، وبغض النظر عن ما يسوقه كل طرف من مبررات لصحة رأيه، لا بد لنا ان نستذكر اولاً ان المديونية هي نتاج السياسات المالية التي تؤدي الى العجز في الموازنة، وأن ما يجب ان نلتفت اليه بداية هو حجم الانفاق الحكومي الذي تصاعد خلال السنوات الماضية بشكل واضح، يقول الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان: «راقب شيئًا واحدًا وشيئاً واحدًا فقط: كم تنفق الحكومة، لأن هذه هي الضريبة الحقيقية… إذا لم تدفع ثمنها في شكل ضرائب محددة، فأنت تدفع ثمنها بشكل غير مباشر من خلال التضخم أو من خلال القروض، الشيء الذي يجب أن تراقبه هو ما تنفقه الحكومة، والمشكلة الحقيقية هي خفض الإنفاق الحكومي، وإذا تم ذلك، فيمكنك التوقف عن القلق بشأن الدين».

تميز عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي بتوفر مصادر تمويل بفوائد متدنية واجال سداد طويلة، وقد استطاع الاردن خلال تلك الفترة الاستفادة من الديون ومساعدات الدول الشقيقة والصديقة لانشاء وتطوير بنية تحتية متميزة، بما في ذلك مؤسسات صحية وتعليمية ذات مستوى مرموق خرجت كفاءات بشرية ذات انتاجية مرتفعة ساهمت في نهضة العديد من الدول الشقيقة، اضافة الى مشاركة وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في مشاريع ذات عوائد استثمارية، توفر فرص عمل وتساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولكن مع تغير الظروف والمستجدات واجهت المملكة في اواخر عقد الثمانينات أزمة اقتصادية ومالية شكلت المديونية أبرز مظاهرها، وقد استطاع الاردن وعبر تعاونه مع المؤسسات الدولية ان يتجاوز هذه الازمة وان ينهي برامج التصحيح في اواسط عام 2004، حيث تحسنت مختلف المؤشرات المالية وتمت السيطرة على عجز الموازنة وتخفيض نسب المديونية الى مستويات امنة.

واليوم نشهد من جديد جدلاً حول أضاع المالية العامة وخاصة ما يتعلق بالعجز المزمن في الموازنة العامة والارتفاع المضطرد الذي شهدته المديونية العامة، حيث تضاعفت خلال السنوات العشر الاخيرة، بالرغم من انه لا يوجد ما يشير الى استحداث مشاريع بنية تحتية او مشاريع استثمارية تبرر هذا الارتفاع، وبالرغم من أن الظروف الخارجية كان لها دور كبير في تراكم المديونية الا انه لا ينبغي ان نغفل دور بعض القرارات الادارية التي ساهمت في هذا الارتفاع، وعموماً فهذا الواقع ما هو الا نتاج السياسات المالية خلال تلك السنوات، ونحن هنا لسنا بصدد تقييم الساسات المالية ومدى كفاءتها خلال تلك الفترة الا ان المهم هو التفكير بكيفية التعامل مع الواقع الحالي وبحث افضل السبل للتمكن من تحفيز الاقتصاد ورفع مستوى حياة المواطنين وتقديم الخدمات المناسبة لاحتياجاتهم، فارتفاع مستوى الدين عادة ما يشكل كابحاً للنمو ويترافق باثار سلبية على مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبالرغم من المخاطر التي تترافق مع الدين، الا ان التعامل بحكمة وموضوعية هو نقطة البداية لبحث الامور اللاحقة بما في ذلك الاستخدام الكفؤ والمجدي للديون، واساليب الهيكلة التي تضمن تخفيض اعباء خدمتها، والشفافية والافصاح المطلوبين في هذا الاطار،ونحن في الاردن نتوفر على واقع مشجع في هذا المجال، على ان يتم كل ذلك في اطار مؤسسي وتشريعي يتيح اتخاذ القرارات والاجراءات اللازمة بتوقيت مناسب.

يتطلب الفهم المتكامل لموضوع الدين العام ان ندرك بداية ان الحكومة،اياً كانت، تحتاج الى مصادر مالية لاداء مهامها بما في ذلك تغطية نفقاتها الجارية والراسمالية والعمل على تأمين الاستقرار السياسي والاجتماعي، وعندما يكون من غير الممكن تأمين هذه المصادر محلياً يتم اللجوء للاقتراض، وعند الحديث عن موضوع الدين العام لا يكفي ان ناخذ في اعتبارنا الحجم الكلي للدين او نسبته من الناتج فقط بل لا بد لنا من الانتباه الى مجموعة من المؤشرات المتلعقة بالدين، بما في ذلك مصادر الدين هل هي داخلية أم خارجية، مع مراعاة الاثار المترتبة على هذا المزيج على المستوى المحلي والخارجي، ونوع عملة الاقتراض، ثم طبيعة هذه المصادر هل هي حكومات ومؤسسات دولية أم قطاع خاص أجنبي، ايضاً ما هي طبيعة الاعباء المترتبة على الدين سواءً ما يتعلق بنسب الفائدة أو اي التزامات اخرى ذات طبيعة اقتصادية او سياسية، أضافة لذلك من الضروري ان نلتفت الى اجال الدين ومواعيد استحقاقها لنتمكن من مواجهة تلك الاعباء بالشكل المناسب، هذا من جانب المصادر ولكن الجانب الاهم الذي لا بد من مراعاته هو جانب الاستخدامات، فاذا كانت هذه الديون لتسديد نفقات جارية كالرواتب وغيرها نعدها لا بد من قرع ناقوس الخطر، أم لاقامة مشاريع استثمارية وبنى تحتية تكون لها اثار ايجابية على النمو الاقتصادي وزيادة رفاه المواطنين، وتكوين قيمة مضافة للأقتصاد، وكما هو واضح هناك الكثير من التفاصيل التي لا بد من توضيحها ومناقشتها تمهيداً للوصول الى تصور واضح حول الاسلوب المناسب للتعامل مع المديونية وادارة ملفها بشكل مناسب وبما يعظم من اثارها الايجابية على الاقتصاد الوطني ويخفض مخاطرها وما قد يترتب عليها من اثار سلبية في حال لم نحسن التعامل معها، ولنا عودة لبحث هذه الجوانب بشكل تفصيلي لما تشكله من أهمية للوطن والمواطن.

(الرأي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى