اراء

خيارنا الوحيد ومنظومة إجراءات فورية

د.خليف الخوالدة

ما جرى ويجري في قطاع غزة حاليا من أحداث مؤلمة وحرب إبادة جماعية يشنها العدو الصهيوني على القطاع والتي تتصدى لها فصائل المقاومة بكل بسالة هزّت الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وأفزعت الحركة الصهيونية في مختلف دول العالم، وخصوصا المتقدمة منها.

لقد دحضت مجريات الأحداث مقولة “الجيش الذي لا يقهر”، ودحضت أيضا مزاعم الكيان الصهيوني بامتلاكه منظومة استخبارية وأمنية يستحال اختراقها.

كما أثبتت مجريات الأحداث أن لا روح قتالية لدى العدو الصهيوني وأنه لا يقوى على المواجهة، وكل ما يقول به من عمليات جوية ومدفعية تضرب من بعيد بشكل شامل وعشوائي. ولهذا، فإن جل ضحاياها من الأطفال والنساء وكبار السن، هذا بالإضافة إلى تدمير المستشفيات والأحياء السكنية.

لقد لاحظنا حدوث تحولات كبيرة بصورة مندفعة ومتهورة ومكشوفة في مواقف بعض دول العالم، وللأسف الكبرى منها تجاه مقاومة الفلسطينيين -أصحاب الأرض- للمحتلين، وكان آخرها الموقف من حرب الإبادة الجماعية التي شنها ويشنها الكيان الغاصب على قطاع غزة وأزهقت أرواح آلاف المدنيين.

لم تأتِ مواقف قيادات هذه الدول لدوافع انتخابية قادمة وإدراكا منها لتأثير اللوبي الصهيوني العالمي فحسب، بل لأن الحركة الصهيونية قد تغلغلت في مراكز القرار في الكثير من هذه الدول المتقدمة لدرجة أنها تكاد تحكم سياساتها وتوجهاتها وتطوعها لما فيه مصلحتها. لم تبسط الحركة الصهيونية سيطرتها على الدول فقط، بل أيضا على المحطات الإعلامية ومراكز الأبحاث والدراسات.

كما تكشفت حقيقة سياسات بعض دول العالم المتقدم وزال القناع عنها وظهرت على حقيقتها وبان زيف مناداتها بالمبادئ والقيم المثلى.

لكن بالمقابل، لا شك في أن هذه الدول، وجراء هذه المواقف المتحيزة غير المحايدة، قد فقدت وتفقد مصداقيتها ومكانتها العالمية وخلقت حراكا داخليا ضدها من قبل أصحاب الضمائر الحية والمنطق السليم من مواطنيها بسبب فقدان ثقتهم بها، وستعاني من ذلك الشرخ المجتمعي الذي ينخر وسينخر تماسكها سنوات وعقودا عديدة.

أما الصهاينة، فبعد ما اقترفوه من مجازر لا إنسانية، لن يهنأوا بعد اليوم لحظة، فالأجيال لا تنسى والمقاومة لا ولن تموت، وسيبقون يدورون في دوامة فزع وعنف وعداء دائم ومستمر ومتجذر. وهذا ما سيدفع بالكثيرين من العقلاء منهم للهروب إلى دول أخرى بحثا عن الاستقرار والأمان.

أما الأمة الإسلامية والعربية، فكانت أمام علامة فارقة في تاريخها، إما أن تنهض بعدها وتستعيد أمجادها وإما أن تفقد تأثيرها وحضورها.

أما الفائزون الحقيقيون، فهم الفلسطينيون الذين يدافعون عن وطنهم بأرواحهم، ويأتي بعدهم من يدعمهم حقا ويقف إلى جانبهم في الحصول على حقوقهم المشروعة. والله نسأل أن يمدهم بنصر من عنده ويثبت أقدامهم ويحقق تطلعاتهم.

ما حدث ويحدث في قطاع غزة وموقف العالم الغربي من ذلك قد أدمى قلوبنا جميعا وأصابنا في مقتل وخيبة أمل دقت ناقوس الخطر الذي لا يهدأ، ويجعلنا نعيد حساباتنا بالكامل أصحاب قرار وسياسيين ومواطنين ويحتم علينا ضرورة تغيير نهجنا وسياساتنا وأدواتنا.

لقد ثبت خسران رهاننا على علاقاتنا مع دول العالم هذه، فالعالم اليوم يعاني من إفلاس قيمي أخلاقي غير مسبوق. وما كنا نتبناه من سياسات ومواقف وعلاقات ومقاربات وتوازنات على الصعيد الخارجي الدولي لم نلمس ثماره، خصوصا في الأوقات الصعبة وما فيها من تحديات. وبالتالي، علينا تبني استراتيجية الخروج والخلاص من كل هذا النهج.

وكذلك بانت للعيان المواقف السلبية التي لم نجدها في الخطوب والملمات. لذا لا يصح أن نركن لها أو عليها على الإطلاق. نحن بحاجة لقراءة دول العالم أجمع وسياساتها ومواقفها من جديد ليبان لنا تماما العدو من الصديق وكذلك السلبي الذي لا نجده وقت الضيق.

المستقبل يجب ألا يكون كالحاضر ولا كالماضي، لا في توجهاته ولا في تقديراته ولا في أدواته. ولنعلم جيدا أن المنعة وحدها والاعتماد على الذات سبيلنا الوحيد لبناء المستقبل الذي نريد. وما عدا ذلك نسمع كلاما ولكنه لا يترجم إلى أفعال، وربما أقول تجارة خاسرة بامتياز.

نعم، لنعد النظر في تقديراتنا وتوقعاتنا ولنبدأ بنهج وأسلوب عمل جديد، ولنتذكر دائما أن منعتنا الذاتية الشاملة هي السبيل الوحيد لانتزاع -أقول انتزاع- مكانتنا التي نستحق ونريد، وألا نعول على غير ذلك أبدا لا من قريب ولا من بعيد، فالمواقف كشفت حقيقة ما تخفيه الصدور. وهذا لا يتعارض مع الاستمرار بسياسات العلاقات الخارجية المتوازنة والتي تُبقي على الإبقاء على كافة الخطوط والقنوات مفتوحة مع المناورة والتلويح باستخدام مختلف الأدوات والأوراق والخيارات المتاحة.

نحن نواجه تحديات سياسية إقليمية واقتصادية ومالية صعبة، فالدين العام وصل إلى مستويات غير مسبوقة وخدمة الدين في ازدياد مضطرد يتغول بشكل كبير على الموازنة ومصادر التمويل من خلال الاقتراض الخارجي شحيحة وقراراتها مسيسة ومدفوعة الثمن أو على الأقل مشروطة، وأما مصادر التمويل من خلال الاقتراض الداخلي، وعلى رأسها الضمان الاجتماعي، فقد تجف قريبا ولا يكون لديها أموال تزيد عما لديها من التزامات وستقترب مع مرور الوقت -إذا ترك الأمر دون معالجة- من نقطة تتساوى فيها الاشتراكات المحصلة مع الرواتب التقاعدية ويرافق ذلك عجز الحكومة عن سداد المستحق من الديون عليها لصالح الضمان الاجتماعي.

تشير بيانات المالية العامة للدولة المنشورة إلى وضع مالي صعب للغاية، حيث الارتفاع الكبير في قيمة الدين العام، فقد وصلت إلى ما يقارب 43 مليار دينار وفوائد الدين السنوية للعام 2024 تتجاوز ملياري دينار والعجز السنوي للعام 2024 يقارب 3 مليارات دينار، منها ملياران و70 مليون دينار عجز الموازنة، و880 مليون دينار عجز موازنات الوحدات الحكومية.

بكل تأكيد ديون صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي التي قاربت 9 مليارات دينار وربما تجاوزت واجبة السداد، فهي أموال مشتركين من مختلف مستوى شرائح الدخل ولتغطية الالتزامات التقاعدية، لا شك في أن الوضع المالي لأي دولة يحكم سياساتها، فهناك سياسات لفترات الرخاء وسياسات لفترات الشدة. في ظل هذه التحديات الجسيمة التي لابد من معالجتها ولا يصح التغاضي عنها أبدا.

هل هناك جدوى وضرورة من رصد ما يزيد على ثلث مليار دينار أردني في الموازنة العامة لخطة التحديث الاقتصادي؟ إذا ما أخذنا ما رصد لها في الموازنة العامة للعام 2024 والبالغ 349 مليون دينار وما رصد لها في موازنات الوحدات الحكومية والبالغ 135 مليون دينار وما خصص لها من المنح الخارجية والبالغ 250 مليون دينار، سيصل المبلغ الإجمالي المخصص لها إلى 734 مليون دينار؛ أي أكثر من ثلاثة أرباع المليار.

والسؤال هل الأوضاع المالية للدولة تسمح بهكذا تخصيص؟ وعلى ماذا تنفق هذه المبالغ الضخمة في ظل هكذا ضائقة مالية؟ وما النتائج المتوقعة؟ وهل لها مؤشرات محددة ذات مستويات مستهدفة معلنة مسبقا؟ وما القيمة المضافة المتوقعة على الاقتصاد؟ بمعنى لابد أن يتجاوز التحسن في الاقتصاد أضعاف هذا الرقم، وإلا اعتبرت هذه النفقات تكلفة غارقة عديمة الجدوى.

لو تم تخفيض الضرائب والرسوم بربع هذه القيمة هل ستكون النتيجة أفضل؟ وهل القطاع الخاص بحاجة إلى بيئة أعمال محفزة تمكنه من الإنجاز في ظل منافسة على أشدها أم يحتاج لقوالب ووصفات جاهزة ليعمل ضمنها؟

في ظل هذه الأزمة الخانقة، لا يصح بالمطلق تجاهل المشكلة وعدم مواجهتها ولا يصح الاستمرار بسياسة المعالجات المرحلية والدورية السنوية.

ولا يصح المضي قدما والاستمرار بسياسة توفير تمويل للإنفاق من خلال زيادة الضرائب والرسوم التي بلا شك تقتل الاقتصاد أو توفير تمويل للعجز سنويا من خلال المزيد من الاقتراض.

أمام هذا الوضع الصعب، لابد من معالجات جذرية تستهدف النهوض بالاقتصاد وضبط الإنفاق لا الاستمرار بالحلول التي تبدأ عقليتها من رقم عجز الموازنة -كأمر مسلم به- حيث يتمحور العمل فقط حول كيفية تمويله من خلال مزيد من الضرائب والرسوم والاقتراض لا الرجوع إلى الخلف والبحث عن الأسباب والوصول بشكل تدريجي متسارع -لا متسرع- إلى الحد منه والوصول إلى موازنات بلا عجز.

نحن بحاجة إلى تبني سياسات تستعيد الثقة بالمؤسسات والقائمين عليها. نحن بحاجة إلى سياسات عادلة ذات جدوى تعيد النصاب وتجعل الجميع يجندون طاقاتهم وقدراتهم لنجاحها لمصلحة وفائدة الجميع.

أدرك تماما أن القائمين على مؤسسات الدولة يحاولون أقصى ما لديهم من معرفة وخبرة وقدرة التصدي للتحديات وخدمة الوطن.

ولهذا، لا يعد هذا الطرح انتقاصا من الجهود السابقة ولا الحالية، بل يشكل نقطة انطلاقة نوعية مختلفة نحو المستقبل والخروج عن الواقع بثوابت وأدوات جديدة تُحدث تحولا في النهج وطرق التعامل مع المعطيات بشكل يعيد التوازن إلى المشهد العام، واضعا حجر الأساس للمستقبل ومرسخا ثقافة الاعتماد على الذات.

وهنا أطرح محاور وخطوطا عريضة وملامح أساسية لخيارنا الوحيد ومنظومة الإجراءات الفورية التي أقترحها -وهي ليست نظرية ولا خيالية- بل قابلة للتطبيق والتحقيق، ولكنها ليست سهلة المنال، بل صعبة مليئة بالتحديات والمقاومة وربما محاولة الرفض من قبل بعض الفئات.

ولهذا تحتاج إلى إرادة شعبية وطنية كاملة وداعمة.

ويتم تضمين هذه السياسات والإجراءات الفورية في تعديلات دستورية ومشروع قانون واحد يُقر بصفة الاستعجال ليدخل فورا حيز التنفيذ.

وخلاف ذلك -برأيي- ندور في حلقة مفرغة من المسكنات المرحلية التي بحد ذاتها تخلق عظيم التحديات ونبقى في أمس الحاجة إلى الدعم والمساعدات الخارجية.

ويرافق هذه الحلول ويتزامن معها تعظيم القدرات العسكرية الدفاعية وشراء الأسلحة من مختلف المصادر، والأهم من ذلك إطلاق التصنيع العسكري الحربي ودعم الإبداع والابتكار في هذا المجال ورصد المخصصات اللازمة وتعزيز الاحتراف والمقاربات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى