حوادث

“لن نقيم عزاء”.. وفاة على ورق تعيد فتح ملف “المختفين قسريا” في سوريا

منذ تاريخ اعتقاله في سجون النظام السوري عام 2014 لم يصل أي خبر لعائلة ناصر بندق، ابن مدينة السويداء، بشأن مصيره والظروف التي يعيشها وراء القضبان، وبينما كان شقيقه جمال يستخرج بيانا عائليا من “دائرة النفوس” قبل أيام تفاجأ باسم ناصر ضمن قوائم المتوفين.

ناصر صابر بندق شاعر وكاتب يعرفه كل أهالي السويداء وكان قد اعتقل قبل عشر سنوات من قبل المخابرات العسكرية، بسبب نشاطه الإغاثي والإنساني عبر تقديمه المساعدات للنازحين في محافظة دمشق.

واقتيد حينها إلى الفرع 227، أو كما يعرف بين الأوساط المحلية والأمنية بـ”فرع المنطقة”، كما توضح عائلته والبيانات الخاصة بـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.

ورغم شهادة الوفاة التي تفاجأ بها شقيقه عن طريق “الصدفة” واتجاه كتاب وسياسيين سوريين لنعيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي ترفض العائلة “إقامة عزاء أو حتى إعلانه شهيدا”.

ويقول شقيقه جمال لموقع “الحرة”: “نحن أخوته وأبناء العائلة لن نعلن ناصر بندق شهيدا حتى نرى جثمانه أو نحصل على دليل. الورقة الصادرة عن دائرة النفوس لا تؤكد الواقعة ولا يوجد فيها أي تفاصيل أخرى”.

وبعد انطلاقة الثورة السورية في 2011 واستخدام النظام للقوة الأمنية والعسكرية، لازم كثير من العائلات سؤالٌ بقيت الإجابة عليه معلقة بـ”آمال وحسرة”، يخصّ أبناءها المختفين قسريا في السجون الأمنية “هل هم أحياء أم أموات”؟

وبينما اعتمد النظام سياسة الإنكار، وبقي مصير الآلاف حبيس جدران الزنازين، كشفت منظمات حقوقية منذ عام 2018، بناء على شهادات عوائل معتقلين، عن اتجاه النظام “لتوفية المئات” من المختفين قسريا في دوائر النفوس والسجلات المدنية.

“بيروقراطية إخفاء”

ويوضح مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، أنه ومنذ عام 2018 وصلوا إلى بيانات لمعتقلين عَمل النظام السوري على إعلان وفاتهم في دوائر النفوس، وأن عائلاتهم تبلغت بالواقعة “صدفة”.

ويبلغ عدد الحالات الموثقة لدى الشبكة الحقوقية حتى الآن 1623 حالة، بينهم 24 طفلا و21 سيدة (أنثى بالغة) و16 حالة من الكوادر الطبية.

ولم يذكر سبب الوفاة لجميعهم، بينما لم يسلم النظام الجثث للأهالي أو حتى إعلامهم بمكان دفنها، وفق عبد الغني.

ويضيف الحقوقي لموقع “الحرة”: “هذه السياسة ليست اعتباطية. النظام يعمل ببيروقراطية عالية”.

ولا يعلق النظام السوري على ما يجري داخل زنازين أفرعه الأمنية من اعتقال تعسفي وإخفاء قسري وقتل تحت التعذيب، وهي ممارسات لطالما تحدث عنها معتقلون سابقون، ومنظمات حقوق إنسان دولية وسورية.

وتقول الأمم المتحدة إن استخدام الاختفاء القسري ينتشر “كأسلوب استراتيجي لبث الرعب داخل المجتمع”.

وتوضح في المقابل أن “الشعور بغياب الأمن الذي يتولد عن هذه الممارسة لا يقتصر على أقارب المختفي، بل على مجموعاتهم السكانية المحلية ومجتمعهم ككل”.

ويقول أمين سر مجلس المعتقلين والمعتقلات السوريين، مروان العش، إنه وخلال عملهم الحقوقي “لم تظهر لديهم أي حالة لمعتقل منح شهادة وفاة ثم ظهرا حيا”.

وهذه النتيجة توصلوا إليها بعد متابعة آلاف حالات التوثيق والتتبع وتقديم المشورة.

ويضيف العش لموقع “الحرة”: “بيروقراطية العمل بالشرطة العسكرية والسجون العسكرية وأماكن الاعتقال والإخفاء تخضع لجهة تراتبية واحدة وتعليمات مركزية من مكتب الأمن الوطني”.

ويرسم هذا المكتب “استراتيجيات الملاحقة والاعتقال وصلاحيات التعذيب والقتل وإجراءات ترحيل الجثامين للمعتقلين والمعتقلات إلى المشافي العسكرية ثم إلى المدافن الجماعية العديدة”، وفق العش.

وبعد ذلك تتم “إعادة تجريف هذه المدافن الجماعية لإخفاء آثار أي جثامين، ومن أجل تضييع أي جهود مستقبلية لتتبع محتوياتها، وجعل الأمر صعبا على أي جهة تطابق DNA أو علامات حيوية على أي بقايا بشرية”، وفق الحقوقي السوري.

“خيط من الأمل”

وتذكر الوثيقة المتعلقة بالشاعر ناصر بندق أن تاريخ الوفاة يعود إلى 5 مارس 2014.

لكنها لا تقدم أي تفاصيل أخرى عن مكان الواقعة أو سببها.

وإلى جانب ناصر بندق، وثّق “المرصد السوري لحقوق الإنسان” وفاة 9 مواطنين سوريين تحت التعذيب داخل أقبية سجون النظام السوري، تأكدت عائلاتهم من وفاتهم من دوائر النفوس منذ مطلع العام الحالي.

ومع أن قصة الشاعر تشبه أكثر من ألف حالة موثقة لدى جهات حقوقية يدفع “الخيط المعلق بالأمل” عائلته لعدم تصديقها، أو حتى اتخاذ إجراءات على صعيد إقامة بيت العزاء أو الحديث عن مناقبه.

ويشير شقيقه جمال إلى أن العائلة ستضغط سلميا من أجل الكشف عن مصير الشاعر السوري.

ويرتبط الأمل الذي لا يزال متمسكا به بستة أشهر مضت، وفي تلك الفترة يوضح أنه استخرج بيانا عائليا، لم يكن فيه ناصر متوفيا، آنذاك.

ويضيف: “لن نعترف بالورقة. هم لم يبعثوا لنا شيئا وتفاجأت بما حصل بالصدفة. سنبدأ حملة للكشف عن مصيره الحقيقي.. أخي حي حتى يثبت غير ذلك إما بالدليل القاطع أو جثمانه”.

“ابتزاز وذل”

ويقول الحقوقي السوري فضل عبد الغني إن “شهادة الوفاة لا يمكن للعائلة أن تستخرجها بسهولة”، وأن الأمر يحتاج “لدفع أموال ووساطات”.

ويضيف بالقول: “النظام بعدما قتل المواطن المختفي قسريا يعمل على إذلال عائلته ويحاول ابتزازها من أجل المعلومة والبيان”.

ويشير تحقيق سابق للشبكة الحقوقية التي يديرها عبد الغني إلى أن النظام السوري بدأ في تسجيل الوفيات من المختفين قسريا لديه في دوائر السجل المدني منذ عام 2013، لكنه لم يكشف عنها سوى مع بدايات عام 2018.

ويوضح أن هذه الآلية بيروقراطية معقدة، تتورط فيها مؤسسات حكومية عدة، في مقدمتها الأجهزة الأمنية.

وتتلخص في قيام مكتب الأمن الوطني، وهو أعلى سلطة أمنية وعسكرية في سوريا، ويترأسه رئيس الجمهورية، بالطلب من مترأسي الأفرع الأمنية والسجون العسكرية إرسال التقارير الخاصة للذين ماتوا في مراكز الاحتجاز، والبيانات المتعلقة بهم، وأسباب الوفاة، إلى الشرطة العسكرية.

وبعد وصول هذه التقارير والبيانات من قبل الشرطة العسكرية لمكتب الأمن الوطني على شكل دفعات بمراحل زمنية متتالية، يتولى المكتب تنظيمها وإرسالها إلى وزارة الداخلية السورية على شكل دفعات.

وبدورها تعيد وزارة الداخلية إرسال التقارير والبيانات إلى أمناء دوائر السجل المدني، بحسب ارتباط كل أمانة سجل مدني بالشخص المتوفي، وبناءً على ذلك يتولى موظفو السجل المدني تثبيت وقائع الوفاة، ضمن سجلاتهم، بناءً على التعليمات التي وردتهم.

“تحولوا إلى أرقام”

وبحسب ما وثقت منظمات حقوقية سورية عدة، يقول أمين سر مجلس المعتقلين والمعتقلات السوريين، مروان العش، إن أعداد المختفين قسريا في معتقلات النظام السوري يصل لنحو 160 ألف.

“هذا الرقم يكشف عن مشهد مرعب على مستوى عالمي وخلال القرن الحادي والعشرين”، حسب الحقوقي السوري، ويضيف أنه لم يسبق أن سجلت أرقام قريبة من هذا إلا في مذابح كمبوديا ورواندا.

ويعتبر تسجيل وقائع وفاة المختفين قسريا والأرقام المذكورة “سابقة سورية” منذ تولي نظام البعث عام 1963، خصوصا بعد استيلاء حافظ الأسد على الحكم ووريثه بشار، وفق الحقوقي السوري.

ويَعتبر العش أن “هذه السياسة الممنهجة التي يتبعها النظام صممت من رجال المخابرات السورية بعد 2011 لطمس معالم الجريمة مكتملة الأركان”.

ويوضح أن غالبية الشهادات يكتب فيها أن الشخص (المعتقل) توفي لأسباب مرضية مثل “توقف الكلية أو القلب أو أسباب تنفسية، دون ذكر مطلق لأي جريمة تنفيذ إعدام أو قتل تحت التعذيب، أو بسبب الأمراض المتفشية بمعتقلات وأماكن الاحتجاز البدائية”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى