اراء

‏مبادرة تصبّ برصيد الدولة

لا أعرف، بالضبط، كم عدد الموقوفين، او السجناء، على قضايا تتعلق بالتعبير عن الرأي، ولا العنوان القانوني الذي تم بموجبه محاسبتهم، ربما لا يتجاوزون الـ 100شخص، هؤلاء معظمهم من الشباب الذين دفعهم حماسهم الوطني لممارسة النقد بسقوف عالية، ربما أخطأوا، أو تجاوزوا القانون و أخلاقيات التعبير عن الرأي والنقد المشروع، أو حتى وقعوا في مصيدة «التكفير « باسم الوطن، لكن يبقى الأهم من معاقبتهم، هو إعادتهم إلى سكة السلامة الوطنية، و استيعابهم بالحكمة، بدل دفعهم لمزيد من التطرف والخطأ.

قبل نحو 50 عاما ( مطلع الستينات) أطلق الملك الراحل، الحسين طيب الله ثراه، مبادرة للعفو عن المعتقلين السياسيين، وأعادهم إلى أفضل المواقع في خدمة الدولة، وقد رد هؤلاء التحية بمثلها، كما سجل لنا تاريخهم السياسي و الوظيفي، تكررت هذه التجربة في مراحل عديدة من تاريخنا السياسي، ورسخت لدى الأردنيين القناعة التامة بأن دولتهم، مهما أخطأوا، قادرة على نزع الحقد من صدورهم، لأنها تمتلك من قيم السماحة والعفو ما يجعلها تستحق تضحياتهم واحترامهم، والتفافهم حولها، ولأن نظامنا السياسي لم يمارس العنف والقسوة والانتقام، وتلك، بالطبع، الوصفة السحرية التي جعلت علاقة الأردنيين مع قيادتهم ونظامهم السياسي غير قابلة لأي نقاش.

الآن، يمر بلدنا بظروف اقتصادية صعبة، ويواجه تحديات خارجية اصعب، المزاج العام، أيضا، ملبد بغيوم افتقاد الثقة وبالشك، ومشروعات التحديث الثلاثة وضعت على» النار» لكن إنضاجها سيحتاج إلى وقت طويل، كل هذا وغيره يستدعي التفكير جديا بمسألتين: الأولى ترطيب الأجواء العامة، والدخول في حالة الانفراج، وإراحة المجتمع وجبر خواطر الأردنيين، المسألة الثانية ترميم القيم التي تأسست عليها الدولة في علاقتها مع المجتمع، خاصة بعد بعض الإصابات التي طرأت عليها بفعل ممارسات بعض المسؤولين الذين لم يدركوا طبيعة معادلة الحكم وفلسفته في بلدنا، هذه التي قامت على أساس المحبة والسماحة و الأسرة الواحدة.

في هذا السياق، إطلاق سراح الموقوفين والمحكومين بقضايا غير جنائية، ‏وربما أخرى لا تشكل أي تهديد على سلامة المجتمع، أصبح، بتقديري، أمرا مطلوبا وضروريا لأكثر من سبب، أولها إنساني، فلهؤلاء عائلات وأبناء وزوجات ينتظرونهم، وهم بحاجتهم، والثاني سياسي تقتضيه مرحلة الدخول بماراثون الإصلاح، وتهيئة المجتمع للمشاركة فيه والثقة بوعوده، كما تقتضيه اعتبارات اخرى، منها ازدحام السجون بأعداد تفوق طاقتها الاستيعابية، والاهم ترسيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس قيم العدالة والإنصاف، واضافة رصيد جديد لها، سيصب بالتأكيد في مصلحة الجميع.

سأترك الأسباب القانونية لمن يفهم فيها أكثر مني، لا سيما وأن ثمة مؤشرات لعفو عام قادم، لكن ما اريد ان اقوله هو أننا على امتداد تاريخنا كنا الأقدر على تجاوز خلافاتنا ومشكلاتنا، ونظامنا السياسي لم يخرج من رحم «العنف» ولم يمارسه، وبالتالي فإن «سرّ» استقرارنا وصمودنا وسط هذا المحيط المضطرب والمزدحم بالكوارث، هو الاستثمار دائما بالحكمة واللقاء على الخير العام، وتجاوز الأخطاء، واستيعاب بعضنا بعضا، صدر الدولة أوسع من صدور أبنائها، والأردنيون يستحقون ذلك وأكثر.

ربما لا يدرك بعض ‏المسؤولين، خاصة الذين لا يعرفون سمات الشخصية الأردنية، والعلاقة التي تربطهم، وجدانيا ونفسيا، ببلادهم، أن هذا الملف يشكل امتحانا للدولة، وأن تجاوزه بقليل من الحكمة، يعني الكثير بالنسبة للأردنيين، سواء أكانوا من أهالي الموقوفين أو سواهم، كما أن «التمترس» حوله، والاستهانة به، يولد مزيدا من الغضب والقهر، مع انه بجرة قرار يمكن أن نطويه، وأن نتفرغ للأولويات الأهم، ونلتقي عليها بمنطق «الأسرة الواحدة»، لكن هذا يحتاج، بالطبع، إلى «رجالات» دولة عقلاء، يفهمون قيم الدولة، ويقدرون مصالحها، ويحترمون الأردنيين أيضا.

أجزم، دائما، أن بلدنا بخير، ‏وأن مساحات الخير العام لدينا أوسع من مساحات اليأس والمناكفة، يمكن للسياسة أن تفرقنا، لكن لا يجوز أن تجردنا من إنسانيتنا، أو أن تجرح وئامنا الاجتماعي، أو ان تحولنا إلى وحوش، لأننا حين نفعل ذلك- يا خسارة – نفتقد أعز القيم التي بنى عليها أجدادنا وآباؤنا هذه الدولة، وأراهن على أننا لن نفتقدها، ولذا أنتظر ممن يهمه الأمر، أن يطمئن الأسر التي غاب عنها آباء أو أبناء عزيزون عليهم، بإصدار قرار إطلاق سراحهم، وهو قرار يسعدهم ويسعدنا أيضا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى