اراء

وقفات مع الزائر الأبيض

جلال أبو صالح

أتحدث هنا، دون رتوش، عن مشاهد موجعة رافقت بهجة قدوم الزائر الأبيض (الثلج) للمملكة، ولعل هذه المشاهد هي الأقسى على القلب، وتعيدنا لحقيقة ما يفعله البرد والثلج والمطر بأبناء جلدتنا، الذين باتت أحلامهم تتلخص بالبحث عن تدفئة و”قلن كاز” وقوت يومهم.

رسم البرد ملامحه، فأظهر أقسى الملامح لطفلة سورية مهجرة ترتجف من البرد الشديد، وهي بثياب بالية وحذاء ممتلئ بالطين لا يحمي قدميها من الصقيع، كما جاء في مقطع فيديو انتشر عنها قبل أيام، لترسم هذه الطفلة البريئة أبشع صورة للفقر والحاجة، والتي لن تتذكر حينما تكبر سوى الحرب والخيام وقسوة البرد!

صور كثيرة تعبر أمامنا لأطفال في مخيمات اللاجئين يغصون بالألم، ويخوضون في مساحات من البياض تغطي قاماتهم القصيرة، ويعجزون عن الاختباء منه، حيث لا مأوى، فالخيام لا سقف لها سوى الريح!

وتستوقفك بغضب وحسرة قصة الشاب الأردني، محمد عايش، الذي فقد حياته في سبيل تهيئة وفتح الطرق أمام المواطنين العالقين في الشوارع بسبب تراكم الثلوج، أثناء عمله كسائق جرافة في أمانة عمان.

تعيدنا حادثة وفاة المرحوم عايش مرة أخرى، لسوء ورداءة وقصور خطط الطوارئ في المملكة وقت الأزمات. فكم من حوادث مشابهة تعرض لها مواطنون في مثل هذه الظروف نتيجة رداءة البنية التحتية وأعطال كبيرة في الآليات، من المفترض بها أن تكون مجهزة للحالات الاستثنائية.

في وقفة ثالثة؛ جارٌ لنا يسكن في بيت متواضع ويعيل عائلته، شاهدته أول المنخفض يقف حائراً أمام بيته، يده على خده، ممسكاً بقنينة ماء فارغة، ولما سألته: “ما بك؟” أجابني: “أتركها على الله يا ابن الحلال.. ما في بجيبتي ليرة أعبي هالقنينية كاز.. والدار عندي مثل ما انت عارف باردة”

لم يصدمني هذا الجار بردّه، فهو كحال الآلاف من الأردنيين الذين لا يقوون على تدفئة بيوتهم، أو حتى شراء مستلزمات العيش البسيطة. فجياع كثر باتوا من حولنا، وينامون وأمعاؤهم خاوية، يتألمون شتاءً حين يخترق البرد أجسادهم، وهم يدارون قهر الفقر والحاجة.

صاحبت كل تلك الصور، سلسلة انقطاعات كهربائية لساعات طويلة، بعضها استمر أكثر من يوم، ما فاقم معاناة سكان مناطق وأحياء واسعة وتحديداً في العاصمة عمان. انقطاع الكهرباء وما تركه من معاناة كبيرة، عرّض شركة الكهرباء لانتقادات واسعة من المواطنين، بسبب أداء الشركة المتواضع أثناء المنخفض بعد تحدثها عن استعداداتها المسبقة والطارئة.

بين برد الشتاء القارس والثلج، تزداد أوضاع الناس صعوبة، لكن الفقراء يعيشون تحت ضغط الحاجة، دون أن يدري أحد بأوضاعهم، فهم لم يعتادوا السؤال، ولا أحد يعلم حاجتهم الماسة لمستلزمات أساسية تعني لهم الحياة، مثل “قلن” كاز!

الوقفات كثيرة ومتعددة الأشكال في بلادنا، ووحدهم الفقراء والمسحوقين من يبقون ضحايا الفصول الأربعة، فلا بيت آمن يقيهم البرد شتاء، ولا ضراوة الحر صيفاً!

فكر بغيرك، بعائلتك وجارك وزميلك في العمل وأبناء جلدتك في كل مكان.. وكما قال محمود درويش: “وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكر بغيرك، لا تنس شعب الخيام.. وأنت تنام وتُحصي الكواكب، فكر بغيرك، ثمة من لم يجد حيزاً للمنام”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى