اراء

تحالف الاحتكار مع الحكومات الكبرى

د. جواد العناني

من هم المستفيدون عملياً من المقاطعة التي أعلنت ضد روسيا، وبخاصة في مادتي النفط الخام والغاز الطبيعي. هذا السؤال طرحته مجلة سبيكتايتور (Spectator)، في عددها الصادر يوم السبت الموافق 12/3/2022، ضمن مقالها الصادر بعنوان “ملوك السلع: هل اكتشف كبار المضاربين بوصلة أخلاقية؟”.

بدأ المقال بالحديث عن المضاربين في شركة شل البريطانية الذين كانوا يراقبون أسعار النفط بعد إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن، ومن خلفه بعض الدول مثل بريطانيا، عن مقاطعته سلعتي النفط والغاز الروسيتين، وكيف بدأ الفرق في أسعارها يتباعد بين مزيج برنت الذي ارتفع والخام الروسي الذي تراجع.

وقد عرف منتجو النفط الروس أن تخفيض الأسعار لا بد أن يغري، في نهاية المطاف، بعض المضاربين بشراء النفط الروسي عندما يصل إلى سعرٍ أدنى من سعر برنت بمقدارٍ كافٍ يجعل دافع الطمع أهم من جانب الخوف.

ولمّا وصل سعر برنت إلى 118 دولاراً للبرميل، أو بفارق 28.5 دولاراً عن سعر الخام الروسي، اشترى المضاربون من شركة شل النفط الروسي بكمية 730 ألف برميل محققين ربحاً فورياً قيمته عشرون مليون دولار.

وإذا كثر المشترون للنفط الخام الروسي، فإن في ذلك تهديداً لنجاعة المقاطعة الأميركية للنفط الروسي وفاعليتها. وهذا بالطبع سوف يؤثر على مبيعات نفط بعض الدول، مثل السعودية وكبار المنتجين في العالم، خصوصا إذا باعت “شل” هذا النفط إلى الأسواق التي يبيع فيها المنافسون.

وفي المقابل، يجب أن ندرك أن السلع الرئيسية تتحكّم فيها شركاتٌ محدّدة تمارس الاحتكار لغالبية التبادل الدولي في العالم. وما جرى في دنيا النفط بدأ يحصل مع السلع الأخرى، فالحبوب مثلاً كالقمح، والذرة، والأرز، والشعير، وفول الصويا والسكر تتحكم فيها أربع شركات عالمية، يطلق عليها اسم “تجار الحبوب” تتحكّم بحوالي 90% من تجارة الحبوب في العالم.

وهذه الشركات هي آرتشر دانيلز- ميدلاند (ADM)، وشركة بنج (Bunge) وكارميل، وشركة دريفوس. وهؤلاء هم الذين يتحكّمون في الأسعار. وقد رأى هؤلاء فرصةً كبيرة سانحة في الحرب الأوكرانية، لكي يرفعوا الأسعار. ولا بد لروسيا مثلاً من أن تُغري هؤلاء أو شركاءهم بشراء القمح الروسي عندما يُعرض بأسعار مغرية.

ولذلك، تعمل هذه الشركات كالمنشار، كما يقول المثل المصري الدارج “طالع واكل، نازل واكل”، فهم يشترون من روسيا أو الدول المحاصرة بأسعار منخفضة، ويبيعون إلى الدول المستوردة بأسعار الندرة الناتجة من المقاطعة أو الحصار، وأكبر المستفيدين من هذه المقاطعة هم التجار الأميركان والإنكليز وغيرهم.

وينطبق الأمر نفسه على شركات الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية والمعلوماتية، والتي استفادت كثيراً جداً من فترة جائحة كورونا ولا تزال، وتبحث لها عن مداخل للاستفادة من فترة الأزمة الأوكرانية.

من هنا، لا بد أن يثور السؤال: من هو المتحكّم في الآخر؟ هل هي الشركات الاحتكارية الكبرى التي تتحكّم في كميات السلع الأساسية والاستراتيجية وأسعارها، أم هي الحكومات التي تسعى إلى وضع هذه الشركات تحت هيمنتها مستفيدة من قدراتها والامتيازات السياسية التي تتمتع بها هذه الشركات؟

والإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة المنال، بل يستطيع الباحثون أن يجدوا أمثلةً تؤيد جانبي النقاش.

ولو نظرنا إلى جيف بيزوس، الرئيس السابق لشركة أمازون، ورئيس مجلس الإدارة التنفيذي فيها، كيف استطاع أن يحوز ملكية صحيفة واشنطن بوست ويستغلها تماماً لإبراز دوره السياسي.

في المقابل، نرى أن الحكومة الأميركية تسعى إلى استغلال شركات الاتصال الرقمي الكبرى في العالم، مثل “فيسبوك”، لكي تروّج مواقفها، وتحارب معها من يروّجون معلومات عن خصوم الولايات المتحدة، صحيحة كانت أم محوّرة أم كاذبة من أساسها.

وبسبب القضايا المتتالية التي رفعت في المحاكم الأميركية ضد مؤسس الشركة ومديرها التنفيذي مارك زوكربرغ، فقد اضطر إلى السماح بنشر معلوماتٍ ضد روسيا، وبحجر معلومات مضادّة للولايات المتحدة أو حلفائها.

ولكن الواقع أن العالم الآن بدأ يرى ممارسات احتكارية تقودها الدول الكبرى صاحبة النفوذ في العالم، وتحقق هذه الشركات أرباحاً غير متوقعة (Windfall gains) بمبالغ خيالية، في وقتٍ تستفيد فيه منها حكومات هذه الدول التي تُخضع هذه الأرباح لنسب ضريبية عالية.

وهنالك من يستفيد من هذه المصائب، فإسرائيل مثلاً استقبلت خمسة من كبار الأثرياء الروس اليهود (Oligarchs)، وتأمل بأن يستخدموا إسرائيل أرضا وسيطة.

ولا يُستبعد أن يكون موقف الحكومة الإسرائيلية الحالي من روسيا وغير المنسجم مع الموقف الأميركي ناتجاً، في أساسه، عن الرغبة في منح ملاذ آمن لأصدقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أثرياء روسيا، ويحقق، في الوقت نفسه، أرباحاً مادية كبيرة لإسرائيل، ويجلب لها مهاجرين يهودا من روسيا ثانياً، وأوكرانيا أولاً، لتعوّض عن التفاوت في عدد السكان بين الفلسطينيين في أرض فلسطين التاريخية واليهود الإسرائيليين، ولتكون “حُجَّة” لهم للتوسع في الاستيطان داخل الضفة الغربية، ومنع قيام دولة فلسطينية إلا إذا كانت كانتونات صغيرة متفرّقة لا تحقق الحد الأدنى من التواصل.

قد لا تطول الحرب الروسية الأوكرانية كثيراً. ولكن من نتائجها الوخيمة أن المقاطعة الاقتصادية للضغط على روسيا ستطول، حتى تتآكل كل الفوائض والفرص المتاحة حالياً.

وفي هذه الأثتاء، سيدفع باقي العالم مبالغ ضخمة، نتيجة ذلك الحصار، لا يذهب ريعها إلى المنتجين، بل إلى الوسطاء من المضاربين وتجار الحبوب وأصحاب الشركات الرقمية الكبرى.

سيزيد هذا النظام العالمي الهوّة بين الفقراء والأغنياء، وتآمر الحكومات مع كبار المضاربين قد وصل إلى أوْجِه، ولا بد أن نرى في السنوات القادمات حركات مقاومةٍ وتياراتٍ عنيفة ضده.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى